نيران صديقة

نيران صديقة

03 مايو 2024
+ الخط -

الاستياءُ الغامضُ الذي لازمني كلّما تلقيتُ، في معرضِ التضامنِ مع محنةِ غزّة، ذلك النوع من المقالات والتعليقات "المُزيّنة" بصورٍ متخيّلةٍ لأطفالِ الغزاويين الشهداء، لم تكنْ أسبابه واضحة في عقلي. 

لِمَ الاستياء من رسومٍ تضامنية؟ كنتُ أتساءل. لكن، يمرُّ السؤال من دون جواب: فلا وقت للتفكير. التلقي هو نشاطنا الأساسي في هذه المرحلة التاريخية من قصّة عالمنا. التلقي والأرشفة ومحاولة الهضم لإنتاجِ مُضادّات مُحتملة لاحقاً. 

كان وابل الأخبار يُشتّتني سريعاً لغزارةِ ما يصل، ولا يزال، من أخبارِ فلسطين العاجلة وتحديثاتها على مدارِ الساعة. رسائل وتنبيهات لا تكفُّ تنهمر من كلِّ وسائل التواصل مغرقةً قدرتنا على التروّي والانتباه، إلّا لما يحصل الآن هناك. 

لكنّني حين تلقيتُ، في اليومين الماضيين المزيدَ من الصور، أو بالأحرى "اللوحات" المنفّذة بطريقة "الديجيتال آرت"، أو ربّما الذكاء الاصطناعي عن مأساةِ غزّة، لا أعلم، وجدتُ أنّ المسألة تتفاقم ولا مجال للتأجيل. 

رسائل وتنبيهات لا تكفُّ تنهمر من كلِّ وسائل التواصل الاجتماعي مغرقةً قدرتنا على التروّي والانتباه، إلّا لما يحصل الآن في غزّة

كان الخبر، الذي شاركه أحد الناشطين على منصّة "فيسبوك" مع متابعيه، يقتبسُ تقريراً لمنظمةِ "أنقذوا الطفولة"، يتحدّث عن العددِ الرهيبِ للأيتام الجدد في غزّة، والذين لم يعدْ لهم من معيلٍ بعد إبادةِ عائلاتهم. 

وبغضِّ النظر عن مأساوية وفظاعةِ الخبر، كان أعلى الخبر "مزيّناً" بصورةٍ مرسومةٍ إلكترونياً لأطفالٍ يكادون يكونون نسخةً طبق الأصل واحدهم عن الآخر. نوعاً من "كلون" أي نسخة مستنسخة جينياً.

سألت نفسي: لِمَ اختار الناشط تلك اللوحات التعبيرية بدلاً من الصور الحقيقية لأولئك الأطفال الأيتام، بالرغم من أنّها متوفّرة، وبكثرةٍ مرعبة، أينما ولّيت وجهك شطر أخبار غزّة؟

لِمَ يستعيض عنها بتلك "اللوحات المعقّمة"، أكادُ أقول، والخالية من تفاصيلِ الواقعِ الرهيب الذي يجب أن يُوثّق في كلّ مرّة ننشر فيها ما يحصل هناك؟ 

بعضُ تلك اللوحات "تمثّل"، وهذه مفردة معبّرة أخرى، الشهداء من أطفال غزّة: متشابهي الملامح، "جماعيي الإحساس والتعبير". أي؟ كلّهم دامعون، ينظرون بعيونٍ حزينة، واسعة كبيرة و"جميلة"، كما في رسوم "الأنيمي" اليابانية، إلى السماء، كما لو كانوا عاتبين، أو راجين، أو متوسّلين.

وفي "لوحةٍ" أخرى صوّرهم الرسام راكعين، حفاةً فوق الأنقاض، يصلّون بخشوعٍ، ملتحفين بالكوفيّة الفلسطينية. وفي لوحاتٍ أخرى، وصلت إليّ سابقاً على "فيسبوك"، رسمهم شخص آخر مُجنّحين كما نتخيّل الملائكة، لتأكيد براءتهم ربّما. كما لو أنّهم يحتاجون إلى الأجنحة لكي يكونوا أبرياء! 

كان الأطفالُ في تلك اللوحات خالين من أيّ عيوبٍ بالشكل: لا أسنان أمامية ناقصة، لا شعر مشعث، لا أثر لجوعٍ، أو جرحٍ، أو غبارِ إسمنت على وجوههم. بل وَجْنات منفوخة كما لو بالسيلكون. كانت الكوفيّة تكفي للدلالة على "فلسطينيتهم". 

لِمَ يستعيض بعضهم عما يحصل في غزّة بتلك "اللوحات المعقّمة"، والخالية من تفاصيلِ الواقعِ الرهيب الذي يجب أن يُوثّق كما هو؟

وفي لوحةٍ أخرى، صوّر الرسام (هل هو نفسه؟ لا يمكن التمييز) أطفالًا يلتفون بالكوفيّات خلف جدار، بدا أنّه يشير إلى الجدار الفاصل بين رفح المصرية ورفح الفلسطينية، جائعين وباكين، في حين بدا الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، ضاحكاً في الجهةِ الأخرى للجدار.

وفي حين أنّ اللوحة الأخيرة يمكن اعتبارها نوعاً من الكاريكاتير الذي يُندّد بموقفِ الرئيس المصري مما يحصل تحت أنفِ المصريين، وهذا جيّد، إلّا أنّ تداول اللوحات الأولى في معرض مشاركة أخبارِ الإبادة بدا لي مضرّاً بالتأثير المتوخّى منه. 

لِمَ يقم "الفنان" برسمِ البالغين من الشهداء بالطريقة ذاتها. لقد حصر مواضيع لوحاته وشخصياته التي انتشرت كثيراً على وسائل التواصل، بالأطفالِ، كما لو أنّ البراءة، ومن ثم الظلم الواقع على القتلى الغزيين، محصور في الطفولة من دون بقيةِ المدنيين العُزّل. 

 لا أعلم ما الفكرة من انتشارِ هذا النوع ورواجِه من.. ماذا أسميها؟ الصور؟ اللوحات؟ لا أعرف. خصوصاً أنّ الكثيرين بدا أنهم يُكثرون من استخدامها بدلاً من الصورِ الحقيقية الفصيحة. 

حقاً، لا أعرف. على الأرجح، لم تكن نيّة الرسام أن يُستعاض برسومه الإلكترونية (وهي فنياً في رأيي دون مستوى التعبير عن الحدث) عن الصورِ الحقيقية بها، لكن استخدام الناس لها بهذا المعنى، جعل الحدّ من استخدامها ضرورياً بالتنبيه إلى تأثيرها في سياقِ ما يجري، كونها تُخفّف من صدمةِ المشاهد والقارئ المأمول منه أن ينتفض لهولِ الجريمة، وأن يقوم بتحرّك ما من شأنه إيقاف ما يحصل. 

ففي ظلِّ الحاجة إلى تداولِ ما هو واقعي ورهيب من تفاصيل جريمة الإبادة الجارية في القطاع وتوثيقِه وتعميمِه على سبيل النشر والفضح وطلب المؤازرة، فإنّ هذه الطريقة في التعبير عمّا يحصل في غزّة، خطرة. 

أما لماذا هي خطرة؟ فببساطة بسبب ما أصفه "بنظافتها"، بالمعنى السلبي، من التفاصيلِ الرهيبة التي يجب فضحها، وثانياً لقلّة كفاءتها في نقلِ الواقع الذي تعبّر عنه بفصاحةِ الصور الحقيقية للشهداء، والأطفال، وسائر الضحايا من البشر والحجر. 

إنّها، كما لو أنّك كنت مكلّفاً بنقلِ تفاصيلِ موقعِ جريمةٍ ما، لكنّك بدلًا من الحفاظ على الأدلة بانتظار أن يقوم الأطباء الشرعيون برفعِ البصمات وفحص الدماء وبقيّة التفاصيل، أي عوضاً عن عدم لمس مسرح الجريمة، أنتَ تُحرّك الضحية بما يتلاءم مع الصورة التي تريدها أو تعمد إلى مسح الدماء مثلاً، ومن ثمّ تقوم بالتصوير. وهذا بلغة القانون يُسمّى "العبث بالأدلة"، وهي جريمة يُعاقب عليها القانون. 

لا شك أنّ وصف جريمة في حالتنا "درامي" وزائد عن اللزوم، لكن فلنقل إنّه خطأ، أو ببعضِ المبالغة خطيئة، وهي "خطيئة صديقة"، على وزن نيران صديقة، لولا أنّها، لا شك، مُرتكبة بحسنِ نيّة.